عمالقة التكنولوجيا.. الهروب منهم إليهم!

عمالقة التكنولوجيا.. الهروب منهم إليهم!
(اخر تعديل 2023-11-27 13:42:03 )

لم يكن مستغربا هذا الهجوم من عمالقة التكنولوجيا على المحتوى الفلسطيني في شبكات التواصل الاجتماعي، فقد خَبرنا هذا السعار مرارا وتكرارا، لكنه تغلف هذه المرة بغلاف الدعم الغربي لجرائم الاحتلال الإسرائيلي، والتغاضي المقيت من طرف وسائل الإعلام الكبيرة عن المجازر المرتكبة في غزة.

إليكم الخلطة إذن، دعم غربي لإسرائيل تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وتدليس إعلامي وكذب غير مسبوق من طرف كبريات الصحف والقنوات التلفزيونية، يضاف إلى ذلك نظرة أحادية وتضييق خانق على المحتوى المنتصر للحقيقة في فيسبوك ويوتيوب وإنستغرام وأحيانا إكس.. فما الحل؟

المنصات “المستقلة” لم تعد خيارا

استثمرت جهات عديدة مليارات الدولارات لإطلاق منصات منافسة ومناهضة للغطرسة الغربية، وهذا جزء صغير من مسعى كبير نحو عالم متعدد الأقطاب تحاول الصين والهند وروسيا وغيرهم المضي نحوه، فرأينا ميلاد تطبيقات “قادمة من الشرق” كتيليغرام و vk الروسيين وتيك توك الصيني وباز العربي، في محاولة لكسر الاحتكار الغربي لسوق التواصل الاجتماعي.

استقطبت هذه التطبيقات مئات الملايين من الزوار، باعتبارها متنفسا جديدا، ومساحة “حرة” للتعبير عن الرأي والرأي الآخر، كما استقطبت الشباب والمراهقين المهتمين بالترفيه السريع في عالم مهوس بالسرعة، وتطبيقات مهوسة بالخوارزميات.

تحاول الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ورائها العالم الغربي كبح هذا المنافسة والحفاظ على قدر عال من التحكم والاحتكار، فالمعارك لا تجري على الأرض فقط، بل على منصات التواصل الاجتماعي أيضا، ودونكم تيك توك والتضييقات المستمرة عليه، والتهديدات بإيقافه، بسبب “انتهاك” خصوصية الأمريكيين والأوروبيين تارة، وبسبب “تهديد الأمن القومي” تارة أخرى.

شخص يحمل لافتة تُظهر شعار فيسبوك مقلوبا
انتقادات كبيرة وُجهت إلى فيسبوك بسبب ازدواجية معاييره وتحيزه لإسرائيل

لكن ماذا لو لم يُذعن هؤلاء لتهديدات واشنطن؟ ما الضربة القاضية التي يهدد بها الغرب “خصومه”؟

تتمتع شركتا غوغل (ألفابت) وآبل الأمريكيتان بسيطرة شبه كاملة على سوق أنظمة تشغيل الهواتف المحمولة (حوالي 99% من الأجهزة الذكية حول العالم)، وهي -أي أنظمة التشغيل- الملعب الأساسي للمعركة بين الشركات الصينية والروسية من جهة والأنظمة الغربية من جهة أخرى. وهي معركة غير متكافئة، يفور فيها صاحب الملعب دائما، وهو ما حدث حرفيا مع تطبيق تليغرام.. فما القصة؟

قصة تيليغرام

مع بداية العدوان الإسرائيلي على غزة بعد عملية طوفان الأقصى، استنفرت فيسبوك وأخواتها لمنع المحتوى المناصر للقضية الفلسطينية وعملت على تقييد وصول المنشورات لعدد كبير من المستخدمين، بل حذفت وألغت عددا هائلا من الحسابات والصفحات بسبب ما أسمته “مخالفة المعايير”

فكان الملجأ هو تطبيق تيليغرام الذي يتيح استقبال الأخبار والتحديثات داخل مجموعات وقنوات متخصصة غير خاضعة للرقابة الغربية، واستطعنا بذلك الوصول لفيديوهات المقاومة الفلسطينية وحصلنا على صور من قلب المعركة، ونقلنا قصة المقاومين والمقهورين من داخل القطاع، وتم تعرية الاحتلال وضرب روايته المهزوزة في مقتل، وكشفنا جرائم مروعة كنا نظن أن الإنسانية تجاوزتها منذ العصور الوسطى.

لكن غوغل كان لها رأي آخر! فقد هددت تطبيق تلغرام بحظره من متجر غوغل بلاي إن لم يحذف القنوات التي “تدعم الإرهاب”. وهو الأمر الذي استجابت له الشركة مُرغمة!

وبهذا.. تكون غوغل -وربما آبل مستقبلا- قادرين على التحكم في محتوى التطبيقات أيضا.. وتتحول إلى الآمر الناهي الذي يحدد نوع المحتوى ومعايير نشره ومن المقاوم ومن الإرهابي! بصرف النظر عن رأي صناع هذا التطبيق أو الجهات التي تقف وراءهم!

المواقع الإلكترونية.. ملجؤنا إلى حين

إلى اليوم، يمكن للصحافيين وقادة الرأي نشر محتواهم على مواقعهم الإلكترونية ما لم يخالفوا “المعايير” أو ما لم تتغير هذه المعايير التي يتم تطويعها لنُصرة الغرب دون غيره من سكان هذا الكوكب.

تستطيع شركات الاستضافة ومقدمو الخدمات السحابية والخوادم حول العالم إسكات أي موقع إلكتروني بضغطة زر، وقد فعلت هذا سابقا لاسيما مع مواقع القرصنة والجرائم وتجارة السلاح والمخدرات وغيرها، وهي -أقصد شركات الاستضافة- مستعدة لخوض غمار المنازعات القضائية التي ستفوز بأغلبها حتى ضد المحتوى الصحافي.. فما أسهل الوصم بتهمة الإشادة بالإرهاب أو خطاب الكراهية أو معاداة السامية.

لذلك ستكون المواقع الإلكترونية الملجأ المؤقت لصانعي المحتوى، أصحاب الرأي المخالف والرواية المخالفة.. إلى أن تقرر الشركات الأمريكية غير ذلك، وتدفعنا نحو الإنترنت المظلم.

الإنترنت المظلم.. معزول ومظلم

يتميز الإنترنت المظلم بقدرته على المناورة وتجاوز الحظر والرقابة، فلا يوجد أي سبيل لوقفه حاليا، وهو مسرح مرعب لنشر كل المحظورات والممنوعات دون حسيب أو رقيب فتجد هنالك تجارة البشر والمخدرات وكل أنواع الجنس الممنوع والاستعباد وكل طامات العالم، وهذا ما يعطيه هذه الصفة المُخزية.. ومع ذلك تنشط جماعات كثيرة في هذا الجانب المظلم من الإنترنت، لنشر أفكارها وتنظيم صفوفها ومخاطبة جماهيرها ومريديها.

على الرغم من الإمكانيات الهائلة للإنترنت المظلم وقدرته على تجاوز الرقابة والحظر إلى أنه مازال في المخيال العام مكان للجريمة والشذوذ والموبقات بأنواعها.. لذلك سيضل مظلما ومعزولا.

عالم متعدد الأقطاب.. سياسيا وتكنولوجيا أيضا

بعد الأزمة الخانقة والخلاف الشديد بين واشنطن وشركة هواوي الصينية، انخرطت غوغل في هذا الصراع ومنعت هواتف هواوي من استخدام “خدمات غوغل” دون منعها من استخدام نظام التشغيل أندرويد المملوك لغوغل أيضا، وهذا كان -لوحده- كفيلا لضرب مبيعات هواوي من الهواتف الذكية، ما دفع الشركة الصينية لابتكار نظام تشغيل خاص بها أطلقت عليه اسم (هارموني) وبات من أنظمة التشغيل الأكثر انتشارا في الصين، وبدأ يشق طريقه في الأسواق العالمية أيضا.

إذا نجحت هواوي في اختراق سوق أنظمة التشغيل، واستطاعت مزاحمة غوغل وآبل، فسوف يفتح هذا شهية عمالقة الشرق للمنافسة على الكعكة كاملة، ولن يتوقف الأمر عند صناعة الهواتف والبرمجيات بل سيتعداه إلى الخدمات الرقمية المختلفة وخدمات استضافة المواقع الإلكترونية والخوادم الآمنة ومراكز البيانات والخدمات السحابية وغيرهم.

وستلتحق الهند وروسيا وغيرهما بهذا المسعى لكسر هيمنة الغرب على القطاع التكنولوجي الرقمي، والعمل على الوصول إلى عالم متعدد الأقطاب سياسيا وعسكريا وتكنولوجيا، وحينها ستتوفر الفرصة لتأسيس جماعات ضغط توازن ميزان القوى المختل حاليا.

عبد القادر بن خالد

عبد القادر بن خالد، صحافي جزائري وخبير في الإعلام الرقمي، ساهم في الانتقال الرقمي لقناة الجزيرة بعد انضمامه لها سنة 2014 وعمل رئيسا لقسم التواصل الاجتماعي بالجزيرة نت قبل استقالته نهاية 2021، يعمل حاليا مديرا للابتكار والنمو في مؤسسة فضاءات إحدى أكبر المجموعات الإعلامية في المنطقة العربية.