“الوعد الصادق”.. تمثيل مسرحي أم بناء لمنطق
لقد فعلتها إيران، بعدما سئم العالم من تهديداتها ضد “إسرائيل”، ها قد نفذت عيدها وشنت هجوما عسكريا (الوعد الصادق) غير مسبوق على المناطق المحتلة في فلسطين، في ليلة 13 أفريل الماضي، عقابا على الهجوم الذي نفذته “إسرائيل” على مبنى القنصلية الإيرانية في العاصمة دمشق، الذي أسفر عن مقتل شخصيات عسكرية في الحرس الثوري الإيراني.
يا ترى ما أبعاد هذا الهجوم لقد فعلتها إيران، بعدما سئم العالم من تهديداتها ضد “إسرائيل”، ها قد نفذت عيدها وشنت هجوما عسكريا (الوعد الصادق) غير مسبوق على المناطق المحتلة في فلسطين، الذي يأتي في سياق إقليمي مضطرب جدا، وقد يفضي إلى حرب إقليمية؟ بين من يرى أنه إنتاج مسرحي ذات حبكة ساذجة، ومن يرى أنه انتقال جوهري للموقف الإيراني من الصمت الاستراتيجي إلى منطق الردع.
حرب استخباراتية لثلاثة عقود
لم تكن العملية التي قامت بها “إسرائيل” أثناء إغارتها على مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، فعل معزول. بل لدى البلدان سجل حافل من العمليات العدائية على مر ثلاثة عقود من الحرب المخابراتية والعمليات السرية خارج أراضيهما، كتلك التي حدثت في نوفمبر 2020، أين اتهمت إيران “إسرائيل” بالضلوع في حادث اغتيال العالم النووي البارز محسن فخري زاده، أو تلك التي قامت بها “إسرائيل” ضد أهداف في سوريا، أسفرت عن اغتيال قيادات في الحرس الثوري الإيراني، في حين تتهم “إسرائيل” إيران بضلوعها في هجمات عدة ضد مصالح إسرائيلية أو ضد يهود، لا سيما في الأرجنتين (29 قتيلا في العام 1992، 85 قتيلا في العام 1994)، وفي بلغاريا (ستة قتلى في العام 2012).
إن خلفيات الهجوم الإيراني المباشر على أهداف إسرائيلية ومن أراضي إيرانية أمر غير مسبوق، بحكم أن الصراع العسكري بين البلدين كان خارج مجالهما القطري، وبناء على البيان الأخير للمجلس الأمن القومي الإيراني، فإن هذا الهجوم جاء ليدشن مرحلة جديدة في الموقف الرسمي الإيراني، وهو الانتقال من الصبر الاستراتيجي إلى موقف الردع.
قد يكون البعد الاستعراضي في هذا الهجوم غير المفاجئ، هو بعث رسالة تهديد لإسرائيل بأن أي عملية مستقبلية تمس المصالح الإيرانية في المنطقة لن تمر بسلام، وهذا هو منطق الردع، علما بأن القادة الإيرانيون قد أعدوا حتما خططا لما بعد الهجوم إذا ما قررت إسرائيل الرد.
بالنسبة للبعد العسكري، وهو اختبار مدى نجاعة المنشآت الدفاعية الإسرائيلية في التصدي لأي هجوم محتمل، وهو اختبار أيضا لمدى متانة التحالفات الميدانية للكيان الصهيوني، بعدما تبين أن القوات الأمريكية والفرنسية والبريطانية قد اعترضت أغلب المسيرات الإيرانية وبعض الصواريخ الباليستية.
المشروع التوسعي الإيراني.. خط أحمر
وبالنسبة للبعد الاستراتيجي، وهو الأهم، بعثت إيران برسالة واضحة على أن أمنها القومي يتعدى الحدود الإيرانية، وأنها غير مستعدة البتة التخلي عن مناطق نفوذها ومجالها الحيوي الذي يمتد من لبنان إلى اليمن مرورا بسوريا والعراق، حتى وإن كانت المسافة بين البلدين كبيرة ولكن حلبة الصراع أكبر.
الخطر المحتمل لإيران في حماية مجالها الحيوي هو انعدام الاستقرار السياسي في هذه البلدان ونشوب صراعات داخلية قد تكون مع الزمن عبأ عليها.
يجب التذكير أن هناك مشروعان متضادان كبيران في منطقة الشرق الأوسط، وهما المشروع التوسعي الإيراني الذي يمتد من لبنان، عبر دعم قوي لحزب الله، مرورا بسوريا أين نجد النظام السوري فاقد للشرعية والقوة على حساب دعم ووجود إيراني وروسي، إلى العراق أين نجد إيران حاضرة بقوة في النسيج السياسي، الديني والعسكري من خلال المليشيات المساندة لإيران والمدعومة منها، وصولا إلى اليمن أين استطاعت جماعة الحوثيين الشيعية في بسط نفوذها، بعدما أجهزت بعض الدول المجاورة على المعارضة السنية.
إلى جانب ذلك، نجد المشروع الصهيوني الاستيطاني والتوسعي، من النهر إلى البحر، الذي خطط له عبر الإجهاز على القضية الفلسطينية، ضم تدريجي لكل الأراضي الفلسطينية، والمضي قدما في صفقة القرن من خلال إبرام اتفاقية أبراهام، وتوسيع مشروع التطبيع مع كل الدول العربية، رغم أن هذا المشروع قد تم وأده بفضل عملية طوفان الأقصى.
على كل، ما سينجر عن هذا الهجوم، هو حرب سياسية وديبلوماسية على مستوى هيئة الأمم المتحدة من خلال إدانة صريحة لإيران رغم التزامها بالمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة الذي يعطي الحق بالرد بالمثل في حال اعتدى أي عضو، على عضو آخر، ولعل بوادر الضغط الديبلوماسي يلوح في الأفق مع صدور بيان الإدانة الصريحة لما أقدمت عليه إيران من قبل مجموعة الدول السبع، ومطالبات دولية باستصدار عقوبات إضافية على إيران، تدخل في إطار تحجيم النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط والخليج بما لا يشكل تهديدا حقيقيا للكيان الصهيوني.
مآرب إسرائيل من الهجوم
بالنسبة لـ”إسرائيل”، تكمن أهمية الحدث في استغلاله سياسيا وإعلاميا بما يخدم المصالح الآنية للحكومة الإسرائيلية الحالية وتعزيز الأمن القومي الصهيوني على المديين القريب والمتوسط.
إن الاستفزاز الإسرائيلي لإيران بعد الغارة الاسرائيلية على مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، لا يتعدى أن يكون دعوة لحرب طويلة الأمد، فذلك ليس من مصلحة أحد، ولكنه كفيل بردء صدع الجبهة الداخلية الإسرائيلية المهترئة تحت وطأة الإخفاق الإسرائيلي في أوحال غزة، كما عبر عن ذلك نائب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق يائير جولان، عندما قال إن جيش الاحتلال عالق في غزة دون أهداف حقيقية أو استراتيجية للخروج، فأزمة الرهائن والعجز عن تحقيق انتصارات واضحة جعلت الطاقم الحكومي وعلى رأسه نتنياهو في وضعية صعبة للغاية، وهناك مطالب باستقالة الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة، بالإضافة إلى ملف المفاوضات الشائك، الذي يعد مصدر شقاق داخل الطبقة السياسية الإسرائيلية وحتى داخل المؤسسات الأمنية المختلفة بين من يطالب بإحراز تقدم في التوصل إلى اتفاق ومن يعرقل التوصل إلى ذلك لكي لا تخرج “إسرائيل” منهزمة إذا ما قبلت شروط حماس.
يأتي دور الآلة الإعلامية والديبلوماسية لتحسين صورة الكيان بعدما تشوهت كثيرا جراء ما اقترفته من مجازر في حق المدنيين الفلسطينيين العزل، وتصويرها في هيئة الضحية والمهددة في وجودها. تأتي هذه المحاولات في خضم الحرب الإعلامية التي تشنها “إسرائيل” لتبييض وجهها أمام الرأي العام الدولي.
رغم تضارب المواقف من نجاح الهجوم من عدمه، فكل طرف يحاول حشر الطرف الآخر في زاوية، فالحرب الاستخباراتية بين البلدين لن تنتهي، وحرب ديبلوماسية قادمة تستهدف الوجود الإيراني في منطقة الشرق الأوسط والخليج تلوح في الأفق، وتستمر الحرب على غزة في انتظار ما ستسفر عنه المفاوضات العصيبة وإرجاء الاجتياح العسكري على رفح.