دعاء سيدنا زكرياء من القرآن للإنجاب و طلب الذرية
ونلحظ ثمة فروقاً بين سياقي الدعاء ين ـ في آل عمران ومريم ـ منها أنّه ختم دعاءه في آل عمران بقوله: (إنّك سميع الدّعاء) بمعنى “قابل الدعاء ومجيب له” في حين جاء في ختام دعائه في سورة مريم(ولم أكن بدعائك ربّ شقيّاً) أي: “لم أشق يا رب بدعائك لأنك لم تخيّب دعائي قبل إذ كنت أدعوك في حاجتي إليك بل كنت تجيب وتقضي”( )وكلا الختامين يدلّان على إجابة الدعاء وقدأجيب في آل عمران على لسان الملائكة وهوقوله تعالى: (فنادته الملائكة وهو قائم يصلّي في المحراب أنّ الله يبشّرك بيحيى مصدّقاً بكلمة من الله …}
في حين أنّ إجابة النداء في سورة مريم لم يرد فيها للملائكة ذكر بل إنّها كانت ـ كما ذهب إلى ذلك الرازي ـ من لدن الله تعالى كما في قوله: (يا ذكريّا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى …}
ومن أوجه الاختلاف بين الدعاء ين ما ذكر فيها من سؤال زكريا عن كيفيّة أن يكون له ولد وارث م ما أوضع من حاله قل سبحانه: (قال ربّ أنّي يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقراً وقال كذلك الله يفعل ما يشاء}
وأعاد المعنى نفسه في سورة مريم وغيّر في السياق كما في قوله: (قال ربّ أنّى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقر وقد بلغت من الكبرعتيّاً}
فقدّم في آل عمران: “كبر نفسه ثم عقر المرأة” وأخّر ذلك في سورة مريم فضلاً عمّا في الآية نفسها من التقديم في قوله: (وقد بلغني الكبر) بينما في سورة مريم قال: (قد بلغت من الكبر عتيّاً) وهذا التجديد في السياق من جمال التعبير وجدّته فقد جعل “الكبر بمنزلة الطالب فهو يأتيه بحدوثه فيه والإنسان أيضاً يأتي الكبر بمرور السنين عليه” إلاّ أنّه أخّر هذا المعنى في سورة مريم لأنّه أكثر إيضاحاً ودلالة على حاله وذلك بأن بلغ بنفسه إلى أعلى درجات الكبر(عتيّاً) وهو “حال اليبس والجفاف” والله أعلم.
الناظر بالآيات وسياقها في السورتين يتبيّن الكثير من التفاوت بالتعبير والدلالات ومما يجدر ذكره أن دعاء زكريا في سورة مريم قد تضمّن من الآداب الدعائية ما يوجب أن تكون منهجاً وسبيلاً لكلّ داع وأوّل ما يشار إليه هنا صفة الدعاء التي امتدحها القرآن الكريم بقوله: (إذ نادى ربّه نداء خفيّاً}
ففي صفة الخفاء دلالة على قرب المدعو من الداعي ورعايته له فضلاً عن أن الإخفاء في الدعاء حالة حثّ القرآن عليها ورغّب فيها قال تعالى: (ادعوا ربّكم تضرّعاً وخفيةً …}( ).
ولا ريب في أن الاخفاء في الدعاء “أبعد من الرياء وأدخل في الإخلاص” لله تعالى من الإجهار والتصويت به “لأنّ رفع الصوت مشعر بالقوّة والجلادة وإخفاء الصوت مشعر بالضعف والانكسار وعمدة الدعاء الانكسار والتبرّي عن حول النفس وقوّتها والاعتماد على فضل الله تعالى وإحسانه ” وفي خفاء الدعاء كذلك إشارة إلى عظيم “التضرّع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبّه ومقصوده”
ومن اللّافت للنظر في الآية أنّها جمعت بين النداء والخفاء في صفة الدعاء والعلوم أنّ النداء لا يكون إلاّ برفع الصوت والإجهار به فكيف يكون الدعاء نداءً من جهة وخفيّاً من جهة ثانية في آنٍ واحد؟ وتعليل ذلك ـ والله أعلم ـ أنّه أراد بالخفاء الإشارة إلى أنّ الله تعالى قريبمن عباده يسمع دعاءهم ويعلم هواجسهم فلا يغيب عنه شيء من أحوالهم أما النداء ففيه دلالة على استبعاد زكريا لنفسه ـ إفراطاً في الانقطاع إليه والتواضع والخضوع له تعالى ـ من مراتب القرب والزلفى وقصوره عن الوصول إلى منازل المناجين بمعنى أن في الخفاء دلالة للطيف إحاطته بعباده وقربه منهم وفي النداء إشارة على بعدهم وقصورهم عن مناجاته هذا من جانب ومن جانب ما قدر عليه من رفع الصوت إلاّ أن الصوت كان ضعيفاً نهاية الضعف بسبب الكبر فكان نداءً نظراً إلى قصده وخفيّاً نظراً إلى الواقع
وفضلاً عن التحلّي بأدب الخطاب والدعاء الذي أتى به زكريا فقد بالغ في بيان ضعفه بأن خصّ العظم بالوهن وفي ذلك أرقى المعاني على عجزه ذهاب قدرته لأنّ العظم “عمود البدن وبه قوامه وهو أصل بنائه فإذا وهن تداعى وتساقطت قوّته ولأنّه أشدّ ما تركّب منه الجسد قد أصابه الوهن”
والموضع الثالث الذي جاء فيه دعاؤه في سورة الأنبياء ضمن ما قصّ القرآن من أدعيتهم ومناجاتهم وهو قوله تعالى: (وزكريّا إذ نادى ربّه ربّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين}.
من خلال ما سلف يتّضح أنّ أهمّ ما شغل دعاء زكريا هو طلب الولد الصالح وقد أجاب الله تعالى دعاءه بعدما رأي إخلاصه وتضرّعه وخضوعه في دعائه والله أعلم.