-

الانتخابات التشريعية الفرنسية.. فرنسا بين الحكم

(اخر تعديل 2024-09-09 15:34:55 )

أيام تفصلنا عن إجراء الانتخابات التشريعية الفرنسية، و التي ستجرى يومي 30 جوان و 7 جويلية القادمين، بعد قرار الرئيس إيمانويل ماكرون بحل البرلمان بعد إعلان النتائج الأولية للانتخابات الأوربية، بدقائق، يوم 6 جوان المنصرم.

فاز حزب التجمع القومي بزعامة مارين لوبان بأغلبية نسبية، بالإضافة إلى أحزاب يمينية أخرى، في حين حسن اليسار من نسبه، والخاسر الأكبر كان حزب الأغلبية الرئاسية.

لقد كان اليمين المتطرف حاضرا دوما في المشهد السياسي الفرنسي، و لكنه وجود هامشي و محتشم ، إلى أن حدث ما لم يكن في الحسبان، عندما تم تفجير برجي التجارة العالمية في نيويورك، ذات 11سبتمبر 2001، الحدث الذي أدخل العالم برمته في حالة من الهيستيريا الامنية و الإيديولوجية، و عرف العالم الاسلامي و العربي اعتى موجات الحرب الوقائية الأمريكية، ذات أبعاد امبريالية.

لم تسلم فرنسا من الموجات الارتدادية لهذا الحدث، بحيث أن، خلال الانتخابات الرئاسية الفرنسية لسنة 2002، قام اليمين بزعامة جاك شيراك بتغيير موضوع حملته الانتخابية من موضوع الشرخ الاجتماعي (La fracture sociale)، إلى أن تصدر موضوع انعدام الأمن (L insécurité) لوحاته الاشهارية، واكتسح الموضوع النقاشات السياسية والإعلامية وحتى المنابر البحثية و الاكاديمية، وكان لابد من اختيار متهم، فكان المواطن ذات الأصول الأجنبية الكائن في الضواحي الحضرية (Banlieues).

فاز اليمين التقليدي بالانتخابات الرئاسية لسنة 2002، و لكن على حساب تهشيم اليسار، والذي خلفه حزب الجبهة القومية بزعامة جون ماري لوبان، الذي وصل إلى الدور الثاني مفاجأ القريب و البعيد، الصديق والعدو. فشيراك الذي رفض المشاركة في حرب العراق، بحجة أنه لا يريد فتح علبة باندورا (boite de pandore)، ليطلق العنان للخراب، ولكنه فتحها فعلا عندما صنع له منافس من اليمين المتطرف ليسحقه بعد ذلك في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية، وبذلك أعطى له مساحة أكبر في الفضاء السياسي، لم يكن ليحلم بها.

اليمين المتطرف.. ورقة ضغط في يد السلطة؟!

من اللافت للنظر، أنه منذ الاستحقاقات الانتخابية لسنة 2002، أضحى اليمين المتطرف ورقة ضغط بيد صناع القرار في فرنسي، يلجأ إلى التشهير بها لابتزاز الناخب الفرنسي، و وضعه أمام خيارات صعبة أحلاها التصويت لصالح حزب النظام القائم، محاولين إيهام الشعب الفرنسي أن اليمين المتطرف لن يصل إلى الحكم مهما بلغت ذروته و قوته، لأنه ضد مبادئ الجمهورية، ولكن ثمة عوامل آنية جعلت هذا الاعتقاد السائد يتهاوى أمام الاكتساح الكبير لليمين المتطرف في الفضاء الإعلامي من جهة، وفي الساحة السياسية من جهة أخرى. بعيدا عن نظرية المؤامرة، عندما نجتهد في جمع المعلومات و تحليلها على ضوء السياقات الماضية والآنية، نستخلص أن ثمة طبخات أعدت سلفا، بعضها قد أتت أكلها، وأخرى تم إفسادها وأخرى تنتظر التجسيد، وما خفي أعظم و أمر.

لقد شاءت بعض الجهات الإيديولوجية بإيجاد متنفس لليمين المتطرف ومحاولة نزع الشيطنة عنه و إيهام الناخب الفرنسي بأنه قد يكون البديل السياسي المنتظر، في ظل انفجار وشيك لليمين التقليدي (حزب الجمهوريون)، وتفتت اليسار وشيطنة بعض أطيافه (حزب فرنسا الأبية)، ومع إعلان نتائج الانتخابات النيابية الأوربية، والتي أعطت أغلبية نسبية لحزب التجمع القومي اليميني المتطرف، قرر الرئيس ماكرون بحل الجمعية الوطنية (البرلمان)، ليقر بوجود أزمة ثقة، ليضع الناخب الفرنسي في مأزق حقيقي، فقرار الحل لم يكن محل إجماع، وقد يراد منه إرغامه على التصويت على تشكيلات سياسية غير اليمين المتطرف، مغامرة و مقامرة حقيقية، ولكن المشهد السياسي تغير كثيرا، بحكم أن الوعاء الانتخابي القار لليمين المتطرف قد تدعم بأصوات فئات أخرى غير متوقعة، والتي ستصنع فارقا واضحا في الانتخابات النيابية يومي 30 جوان و 7 جويلية القادمين، ومن هذه الفئات، الجالية اليهودية اليمينية، محبطو حزب الجمهوريون، إلى جانب نسب معتبرة من الفئات الهشة، التي تتقن التصويت العقابي.

العرب والمسلمون .. مستهدفو اليمين المتطرف الجدد

لقد عاب الكثير من الساسة في فرنسا على حزب التجمع القومي (Rassemblement national)، و هو سليل الجبهة القومية المتطرفة، على أنها تأسست على يد مجندون انحدروا من فافن-سرايا الحماية المسلحة النازية (Waffen SS)، التي أنشئت من طرف الحزب النازي عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939. بعدما بدأ الحزب مشروعه السياسي بامتهان المعاداة السامية، أصبح اليوم يعادي كل ما هو عربي وإسلامي، ما جعل العديد من النخب الفكرية والأكاديمية ذات توجه يميني تتودد له وتؤيده وحتى من النخب اليهودية أيضا، خاصة الداعمة للكيان الصهيوني، لذا نرى هذا التقارب العجيب بين اليمين المتطرف الفرنسي الذي بنى مجده على المعاداة السامية، و الأحزاب اليمينية والدينية المتطرفة الصهيونية، خاصة بعد أحداث 7 أكتوبر، و يحضرني تصريح صحفي لرئيس الأسبق للمجلس التمثيلي للجمعيات اليهودية في فرنسا اليمينية (CRIF)، روجي كوكيرمان، غداة الانتخابات الرئاسية لسنة 2002، في جريدة إسرائيلية، قائلا: “آمل أن وصول جون ماري لوبان للدور الثاني للانتخابات الرئاسية الفرنسية، قد يجعل الجالية المسلمة في فرنسا تهدأ قليلا”.

القضية الفلسطينية في خضم المعترك الانتخابي

منذ أحدث السابع من أكتوبر في غلاف غزة، انقسم الرأي العام الفرنسي بين مؤيد للحرب الصهيونية على غزة و مندد لجرائم الحرب الاسرائيلية، واستطاعت هذه الاحداث أن تكشف لنا ما كان مستورا و مخبوءا قبل هذا التاريخ، اين نرى جنوح النخب المثقفة والسياسية إلى نزع الانسنة عن الإنسان الفلسطيني (Déshumanisation)، ومحاولة مستميتة لإخفاء حجم الإجرام الصهيوني في حق الأطفال و النساء الفلسطينيين، من قصف للمدنيين، وتجويع للاطفال و الرضع و تعذيب للسجناء الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية واغتيال للنخب الفلسطينية، من صحفيين وأطباء وأساتذة جامعيين و كوادر إدارية و اعوان الإغاثة.

لقد تميز حزب فرنسا الأبية (La France insoumise)، بإدانتها الصريحة و المستمرة للحرب الإسرائيلية على غزة منذ الأيام الاولى، ومرافعاتها العديدة داخل قبة البرلمان الفرنسي، رغم المعارضة الشديدة لمجمل الاطياف السياسية الأخرى من أقصى اليمين إلى أجنحة اليسار، مرورا بالأغلبية الحكومية، ورغم التعتيم الإعلامي للحدث، والتحريض الصارخ ضد كل من يناصر القضية الفلسطينية.

تمخض عن هذا التحول تعاطف النخب السياسية، الإعلامية و المقاولاتية من أصل يهودي مع اليمين المتطرف في سابقة غير معهودة، حيث صرح سيرج كلارسفيلد (Serge Klarsfeld)، وهو من المدافعين عن ذاكرة اليهود الذين قضوا نحبهم في محتشدات الموت أثناء الحرب العالمية الثانية، وقد لعب دورا في تجريم المعاداة السامية، فقد صرح مؤخرا أنه لن يتوانى عن التصويت لصالح اليمين المتطرف، بما أنه هذا الأخير يساند دولة إسرائيل. للتذكير فإن حزب التجمع القومي الذي يدافع عنه سيرج كلارسفلد، قد تم تأسيسه من طرف عناصر في فافن-سرايا الحماية المسلحة النازية (Waffen SS)، التي أسندت لها مهمة إنشاء النواة الاولى لمحتشدات الموت لقتل اليهود.

ابتزاز الناخب الفرنسي مستمر؟!

لقد احدث قرار رئيس الجمهورية الفرنسية بحل البرلمان عاصفة سياسية، لأنه جاء بسرعة ملفتة للنظر، فقد أعابت الطبقة السياسية على ماكرون عدم التريث و الاستشارة في أخذ مثل هذا القرار، و يرى عارفون بالشأن الفرنسي، بأن توقيت هذا القرار إنما جاء لتقييد الخيارات الانتخابية للمواطن الفرنسي، فجعله رهينة بين يسار غير متجانس سياسيا و لا إديولوجيا، ويمين تقليدي على حافة الانفجار و التفكك، ويمين متطرف يصنع قوته على أشلاء كل هؤلاء، ويقتات من تذمر الفئات الهشة و معاناتها، من دون أن يكون له رؤية سياسية و إيديولوجية واضحة المعالم، بالإضافة إلى الدور الفاضح للإعلام في إبرازه والدفاع عنه، أمام مسمع ومرأى مدافعي قيم الجمهورية.

جبهة قومية أم جبهة شعبية؟

من إفرازات نتائج الانتخابات الأوربية، التي أعطت فوزا كبيرا لليمين المتطرف، هو تحالف قوى اليسار من جديد تحت لواء “جبهة شعبية جديدة” (Le nouveau Front Populaire)، الذي سيخوض الانتخابات التشريعية المبكرة يوم 30 جوان و 7 جويلية القادمين. يحمل هذا التكتل برنامجا انتخابيا قويا، وخاصة في شقه الاقتصادي، و الذي زكته صاحبة جائزة نوبل للإقتصاد سيسيل دوفلو (Cécile Duflo)، والمرتكز أساسا على إصلاح نظام الجباية باستحداث 14 فئة ضرائب لضمان العدل و المساواة في تحصيل الجباية والتأكيد على مبدأ التضامن ما بين الأجيال، بهدف توزيع عادل للثروة، بالإضافة إلى إعادة النظر في الكثير من القوانين التي أقرها الرئيس ماكرون، خاصة في مجالات الأمن، الهجرة، التأهيل الصناعي و البيئة.

من معوقات هذا التحالف هو ثمة خلافات حول أشخاص معينين، و حول مسألة الاستوزار في حالة الفوز، ناهيك عن اختلافات في مسائل سياسية و آنية أخرى، كقضية فلسطين التي وجدت لها مكان في المنافسة الانتخابية ولكن بآراء مختلفة جدا.

و في الجهة الأخرى، هناك محاولة للتكتل بين حزب التجمع القومي، بزعامة مارين لوبان، وحزب الجمهوريون بزعامة إريك سيوتي (Eric Cioti)، الذي أحدث زلزالا سياسيا وتنظيميا داخل هياكل حزبه بإعلانه التحالف مع اليمين المتطرف ما أدى إلى تقهقر شعبية الحزب إلى أدنى المستويات و ذوبانه المحتمل في الحزب اليميني المتطرف.

ولدينا تكتل الأغلبية الرئاسية الذي الذي فقد هيبته، وأعلن عن إفلاسه السياسي، وفقد ثقة الشعب، ويحاول عبثا فرض نفسه في المشهد السياسي المقبل، هذا المشهد الذي بدأ تشكله بعد الانتخابات الاوربية.

فيصل إزدارن

دكتور باحث في علم الاجتماع السياسي - باريس