أطراف عربية وراء الحملة البغيضة ضد البطلة
لم تكن تلك الفتاة التي أرادوا أن يجعلوها بكل وسائل الخداع والتضليل ذكرا “تنازل عن ذكورته” تعلم أنها ستكون في قلب عاصفة غير مسبوقة من التشويه ومحاولات القتل المعنوي، امتد صداها إلى كل قارات العالم.
ركب الأمواجَ العاتيةَ التي استهدفت شخص الملاكمة البسيطة إيمان خليف الاتحادُ الدوليُ للملاكمة (IBA) وسياسيون يمينيون أبرزهم الرئيس الأمريكيُ السابق دونالد ترامب، ورئيسةُ وزراء إيطاليا جورجيا مليوني، ووزيرُ داخليتها ماتيو سالفيني، ومالكُ منصة إكس ”تويتر سابقا“ المليارديرُ الأمريكي إيلون ماسك ومشاهيرُ ومؤثرون وكتابٌ وفنانون ورياضيون من مختلف أنحاء المعمورة.
لأول مرة في تاريخ الألعاب الأولمبية يتفق مشاهير السياسة والأعمال والإعلام الغربي والاتحاد الدولي للملاكمة ضد رياضية أولمبية طعنوا في هويتها الجنسية، بينما أنصفتها اللجنة الأولمبية الدولية وأحرار العالم.. شاهد قصة إيمان خليف مع التنمر pic.twitter.com/1nNrjklqN9
— أوراس | Awras (@AwrasMedia) August 6, 2024
لا أحد من صناع هذه العاصفة أو راكبي أمواجها وقف عند بيانات اللجنة الأولمبية الدولية التي أكدت في كل مرة أنوثة إيمان، حتى إن رئيس اللجنة الأولمبية الدولية توماس باخ قال إن إيمان ولدت أنثى وعاشت أنثى ومارست رياضتها المفضلة كأنثى وهي في جواز سفرها أنثى.. فماذا يريد هؤلاء الذين يطاردون الهوية الجنسية لهذه الفتاة المسكينة؟ أن تكشف عورتها أمام كاميرات العالم ليصدقوها؟
ليس هذا سؤالنا، السؤال الحقيقي: كيف بدأت هذه القصة العاصفة ومن يقف وراءها؟ وما الدافع خلف هذا الاستهداف العالمي لفتاة مسكينة قادمة من عمق المجتمع الجزائري المحافظ؟
بداية القصة
كل شيء يعود إلى شهر مارس من عام 2023 عندما قرر الاتحاد الدولي للملاكمة (IBA) إقصاء إيمان خليف والملاكمة التايوانية يو تينغ لين في أوج بطولة العالم في نيودلهي، بدعوى أنهما أخفقتا في اختبارات سابقة لتحديد أنوثتهما من دون أن يميط اللثام عن السبب الدقيق لقراره، إذ اكتفى بالقول إن هرمون التستوستيرون الذكوري مرتفع لديهما!!
استبعد الاتحاد الدولي للملاكمة إيمان وحرمها من خوض النهائي وقتها، لكنها في 12 من شهر يوليو 2023 عادت إلى الأضواء في الألعاب العربية التي نظمتها بلادها، وفازت بالذهب على منافستها المغربية أميمة بلحبيب في نهائي وزن أقل من 66 كيلوغراما.
وفي أعقاب هزيمة الملاكمة المغربية على يدي إيمان بدأت مواقع وحسابات مغربية ابتداء من منتصف الشهر نفسه تضخ كما هائلا من الأخبار الملفقة على المواقع الإخبارية، ويوتيوب وفيسبوك وإكس وتيكتوك وإنستغرام عنوانها الأبرز: الجزائر تستعين بـ”متحول جنسيا” للفوز بميدالية ذهبية في مسابقة الملاكمة النسوية.
في إحدى التغريدات مثلا يتساءل الإعلامي المغربي محمد واموسي: “كيف يسمح الوفد الرياضي المغربي للاعبة أنثى بمواجهة من استبعده الاتحاد الدولي للملاكمة من بطولة العالم في نيودلهي بسبب ذكورته؟”
⛔️ كيف يسمح الوفد الرياضي المغربي للاعبة (أنثى) في بطولة عربية بمواجهة من استبعده الاتحاد الدولي للملاكمة من بطولة العالم المقامة في نيودلهي شهر مارس الماضي بسبب ذكورته ؟
هذا الأخ أو الأخت (لست أدري) أقصتها اللجنة الطبية للاتحاد الدولي للملاكمة من مسابقة السيدات في بطولة العالم… pic.twitter.com/MuTnaXB2nI
— ⛔️ محمد واموسي (@ouamoussi) July 12, 2023
هجمة مغربية واسعة
بُثت تلك الأخبار الزائفة في حملة ممنهجة واسعة النطاق من مواقع وحسابات مغربية بالإسبانية والعربية والفرنسية والإنكليزية والهولندية، ونتيجةً لهذا الإنزال الضخم المنظم والموجه ضد إيمان، بدأت مواقع وصحف عالمية تتداول خبرا تدور فكرته الأساسية حول هزيمة ملاكمة مغربية أنثى أمام جزائري “متحول جنسيا” أقصاهُ الاتحاد الدولي للملاكمة من إحدى بطولاته المخصصة للنساء لأنه ذكرٌ بيولوجياً بحسب زعم أصحاب هذا المحتوى.
الهجمة واسعةُ النطاق التي شنتها المواقعُ والحسابات المغربية على إيمان في صيف 2023 دفعت منصة مسبار إلى التقصي والبحث في مصداقية ما تم تداوله بشأن الملاكمة الجزائرية، وخلصت المنصّةُ في شهر أغسطس إلى أن إيمان خليف أنثى وليست ”متحولا جنسيا“ وأثبتت أنها شاركت كأنثى في بطولات عديدة بينها أولمبياد طوكيو عام 2020 من دون أي مشكلة تذكر.
فما الذي دفع الاتحاد الدولي للملاكمة ليعود إلى الواجهة مرة أخرى في أولمبياد باريس ويعقد مؤتمرا صحفيا عشية نزال مصيري لإيمان رغم أن اللجنة الأولمبية الدولية جرّدته من الإشراف على منافسات الملاكمة في الأولمبياد؟
استغلال سياسي للقضية
جزء من الجواب يكمن في السؤال: هناك خلاف حاد وحربٌ بين اللجنة الأولمبية الدولية والاتحاد الدولي للملاكمة، وإيمان مظهرٌ من مظاهر تجلّي هذه الحرب، أما عن الهجمة اليمينية في أمريكا على إيمان فإن ترامب استغل هذه القضية لأغراض انتخابية صرفة.
ترامب المرشح لانتخابات الرئاسة الأمريكية يتزعم التيار اليميني المحافظ حاليا ويركز على قضايا الأسرة ليجذب إليه مزيدا من الناخبين المحافظين والناقمين على شيوع المثلية والتحول الجنسي في المجتمع الأمريكي، وعلى نغمة حق المرأة الرياضية في المنافسة مع امرأة مثلها فقط أتت تصريحات ميلوني وسالفيني في إيطاليا دفاعا عن مواطنتهما أنجيلا كاريني التي انسحبت في أقل من دقيقة من منازلة إيمان.
إيمان وقعت ضحية استقطابات انتخابية وسياسية جعلت منها المتهم الأول عالميا في مآسي الرياضة النسوية!!! فضلا عن هذا فإن ازدواجية المعايير في الغرب “المتحضر” تجاه الجنوب “المتخلف والهمجي” ساهمت في هذا الاستقطاب منقطع النظير، إيمان ليست فتاة غربية شقراء، إنها من “بيئة مسلمة” ومن السهل تصويرها وحشا ذكوريا متسترا بهوية أنثى ليفترس الملاكمات البيضاوات الناعمات في منافسة غير متكافئة!.. هذا جزء من المشهد فقط.
أميمة بلحبيب.. كلمة السر
نعود الآن إلى أميمة بلحبيب، التحقت الملاكمةُ المغربية عام 2021 بالاتحاد الدولي للملاكمة (IBA) عضوا في لجنة الرياضيين ممثلة لإفريقيا، وتربطها علاقات وثيقة جدا برئيس الاتحاد الروسي عمر كريمليف المثير للجدل.
تجدّدَ اللقاء بين إيمان خليف وأميمة بلحبيب في سبتمبر 2023 ضمن التصفيات المؤهلة لأولمبياد باريس، ومرّة أخرى فازت إيمان على أميمة في السنغال وانتزعت بطاقة العبور للأولمبياد بجدارة، أي أن أميمة بلحبيب انهزمت أمام إيمان في الألعاب العربية وفي بطولة إفريقيا المؤهلة لأولمبياد باريس بالسنغال وهي عضو في الاتحاد الدولي للملاكمة.
وإلى جانب عضوية أميمة في الاتحاد الدولي للملاكمة نجد أيضا أعضاء آخرين نافذين من جنسية مغربية أبرزهم عضو مجلس إدارة الاتحاد عبد الجواد بلحاج، وعضو اللجنة الفنية والإدارية نبيل حلمي بالإضافة إلى آخرين كزبيدة وسام وخالد القنديلي وعثمان فاضلي وغيرهم.. الذي حدث تالياً بعد الهزيمة الثانية للملاكمة المغربية هو عودة الحملة المسعورة ضد إيمان في ذلك الوقت بقوة أيضا.
لن أترككم تخمنون العلاقة بين الهجمات الإعلامية المغربية على إيمان وبين الاتحاد الدولي للملاكمة بأعضائه ذوي الجنسية المغربية السابق ذكرهم، فهي أوضح من أن تمنح القارئ فُسحةً للتخمين، واضح الآن أن عداء الاتحاد الدولي للملاكمة تجاه إيمان مرتبطٌ ارتباطاً وثيقا بأعضائه ذوي الجنسية المغربية، فإيمان من منظورهم جزائريةٌ ببساطة، وهي صفة كافية ليشنّوا هذه الحملة ضدّها بغض النظر عن الرغبة في الانتقام منها بسبب هزيمة زميلتهم في الاتحاد مرتين أمامها، وباقي القصة تعرفونها: إنزال سيبراني مغربي متكرّرٌ ومكثّفٌ ضدّ إيمان قاد الأمور هذه المرّة إلى حملة تشويه عالمية غير مسبوقة!
الجزائر عقدة المغرب
الثابث والمؤكد أنه من الغباء فصلُ حملة التشويه التي تعرضت لها الملاكمة الجزائرية عن الحرب المغربية متعدّدة الساحات ضدّ أي شيء ذي علاقة بالجزائر، ومن سوء حظ إيمان أن الحملة ضدّها صادفت صعودَ قضايا المثلية والتحول الجنسي وحماية المرأة وغيرها من القضايا المرتبطة بهذه الزاوية لتُصبحَ ورقةً انتخابية في أمريكا والغرب عموماً يتجاذبها اليسار الليبرالي واليمين “المتديّن”.
إنه فعلا واقعٌ مرير وصادم يكشف درجة الحقد والخبث والغل الذي يحمله مسؤولو المملكة المغربية ومثقفوها وإعلاميوها ورياضيوها وفنانوها تجاه الجزائر وأبنائها وموروثها وتراثها وتاريخها وأمنها، وإلى أي مدى يمكنهم المضيُّ في سبيل الإساءة إلى أي شيء تتخيلونه فقط لأنه مرتبط بالجزائر.
تزيد هذا الواقعَ مرارة سذاجةُ المسؤولين الجزائريين وعدم قراءتهم للمشهد بالصورة المثلى وعجزُهم الكلي عن اتخاذ القرارات المناسبة في الأوقات المناسبة، وتوجّسهم من التكنولوجيات الحديثة وعزوفُهم عن الاستثمار في عقول الشباب والكفاءات، وقلةُ الحضور الجزائري على منصات التواصل وانعدامُ صناعة محتوى رقمي يخدم الجزائر في شتى الميادين.
ختاماً وراء كلّ حملة تستهدف الجزائر هناك يدٌ مغربية بطريقة أو بأخرى، ولن أسرد لكم المحطات التي وقفنا عليها جميعاً في سياق الاستهداف المغربي لكلّ ما هو جزائري.
إن عدمَ تحرك الدولة سريعاً لضمان أمننا “السيبراني” سيكلف بلادنا الكثير الكثير، لأن حروب المستقبل لن تكون بالدبابات والصواريخ والطائرات التي مازلنا نحتفل باستعراضها حتى الآن!